الطريق إلى الأربعين: رحلة نحو الروح والوطن

لم يكن الطريق إلى الأربعين مجرد مسافة تُقطع، بل كان حياة تُستعاد. كل خطوة وكل شبر من هذا الطريق يُعيد وصل ما انقطع بين القلب والروح، بين الأرض والسماء. \n\nانطلقنا من بغداد، حيث الطرق تتفتح مثل أذرع أم تشتاق لأبنائها. الشوارع جديدة، واسعة، مرتبة، تُعبّدها أيادٍ تعرف أن الزائر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يستحق التكريم قبل أن يصل، وأن يُهيأ له السبيل قبل أن يخطو أولى خطواته. \n\nتسير السيارات بانتظام، والناس يمشون في صفوف تتجه إلى قِبلة واحدة. مع اقترابنا من كربلاء، نشعر أننا نقترب من الحقيقة التي تحملها عاشوراء: التضحية، الكرامة، والحرية. \n\nتنتشر المواكب الخدمية كواحات في صحراء العناء. أكواب الشاي الساخن تلتقي مع العصائر الباردة، وأطباق الطعام تملأ الأيدي قبل أن يفرغ القلب من الامتنان. هنا تجد الحساء الدافئ، وهناك العصائر الطازجة، وفي زاوية أخرى شواحن الهواتف، لأنهم يعرفون أن حتى التكنولوجيا تحتاج إلى البقاء على قيد الحياة في هذا المسير الطويل. خدمات طبية، أماكن للراحة، وبسمات لا تنطفئ حتى وإن أُرهقت الأقدام. \n\nمررنا بمنطقة جرف النصر، حيث يُختصر الطريق الجديد الذي يربط العاصمة بكربلاء المسافات، لكنه يُطيل لحظة التأمل. الأمن حاضر، والحشد الشعبي يُراقب بعين لا تنام، مرفقًا بقلب يُرحب بكل زائر. بعض المواكب قدّمت لنا ما نحتاج إليه قبل أن نسأل، كأنهم يقرؤون الحاجات قبل أن تُنطق. \n\nفي هذا الطريق، كل شيء منظم، وكل قلب مشغول بالصلاة. حين يحين وقتها، تتوقف الأقدام عن السير، ويقف الجميع صفًا واحدًا، كأن الأرض كلها صارت مصلى. النساء والرجال يحرصون على الحشمة وكأنهم في حضرة الإمام منذ الآن، لا ينتظرون الوصول إلى الضريح. \n\nومع كل كيلومتر نخطوه، نشاهد مدنًا تتسارع في تطوير نفسها، كأنها تريد أن تليق بضيوف الحسين. الجنود منتشرون على الطرق، متعبون لكنهم يبتسمون، كأنهم يقولون: "طريقكم أمانتنا". \n\nفي كربلاء، التقينا محافظها، الذي كان وجهه مشدودًا من قلة النوم، لكنه لم يبدُ منهكًا، بل مفعمًا بالمسؤولية. قال لنا بابتسامة سريعة إن رئيس الوزراء يتصل به كل ربع ساعة. لم أستغرب، فالمدينة الآن قلب العراق النابض، وكل نبضة فيها تُراقب. \n\nفي الطريق إلى الأربعين، تدرك أن المسافة ليست بين بغداد وكربلاء، بل بين نفسك القديمة ونفسك الجديدة. كل خطوة تُسقط عنك بعض ما أثقل قلبك، وكل لحظة قرب من الضريح تزيدك يقينًا أنك لم تكن تسافر في الأرض فقط، بل في داخلك أيضًا. \n\nهنا، على هذا الطريق، يتوحد العالم في اسم واحد، ووجهة واحدة، وقلب واحد. هنا، يبدأ الوطن من جديد.

2025-08-16 21:45:23 - مدنيون

المزيد من المشاركات